الأحد، 26 أكتوبر 2008

الثأر

ثلاثية الحزن والثأر والموت في صعيد مصر :نساء يحملن السلاح .. وأطفال يعشقون الموت .. وتقاليد لا ترحم الضعفاء
ألثأر اكل الاخضر واليابس في الصعيد
" كنت فين يا وعد يا مقدر .. دي خزانة وبابها مسدر " .. بكائية من مئات بل آلاف المواويل الحزينة التي يهرع إليها أهالي الصعيد في جنوب مصر في أحزانهم العديدة والمتوالية ، كلمات قصيرة لكنها قاتلة تصبغ القلب بالسواد ، وتفوح منها رائحة الموت الممزوجة بالدم ، جمل لا تخلو من الموسيقي والشجن ، لكنها موسيقي سوداء ، عزفها كل نساء الصعيد بعدما التهمت " محرقة " قطار الموت أكثر من 350 شخصا قبل سبعة أشهر ، في سيمفونية جنائزية قلما تتكرر . ولكن يبدو أن طائر الموت الحزين قد عشش في بيوت الصعايدة ، بعدما أعجبته تلك الأنشودة اليومية التي يعزفها الإنسان والطبيعة في صعيد مصر .
وفي هذه المرة حط فوق بيوت قرية صغيرة ، كان حظها من الدنيا أن تلقى في حضن جبل جرجا الوعر بمحافظة سوهاج ، ومن بين بيوت قرية "بيت علام" المترامية ، اختص طائر الموت عائلة الحناشات بلحنه الجديد ، وخطف في لحظة سوداوية اثنين وعشرين طفلا وشابا وكهلا من العائلة في حلقة جديدة ومؤلمة من حلقات دراما الموت التي يعشقها الصعايدة والمسماة بـ " الثأر " ، لكنها كانت الحلقة الأكثر دراماتيكية .والحزن لدى سكان الصعيد ليس بالأمر الطارئ أو العابر ، بل انه نسق حياة متكامل ، ويحتل الثأر بما يخلفه من موت وخراب مكان القلب منه ، والمرأة الصعيدية تكاد لا تخلع السواد طوال عمرها ، ولا تقتصر مراسم الحداد على الملبس فقط ، بل يمتد إلى المأكل وكل اوجه الحياة المتعددة ، فتغلق أجهزة التليفزيون ويتوقفون عن أكل اللحوم وعمل الكحك في الأعياد ، وتتوقف حفلات الزفاف وتختفي كل ملامح الفرح ، ولا تقل فترة الحداد لدى المرأة الصعيدية عن عام كامل وربما يمتد الحزن مدى الحياة إذا كان الفقيد زوجاً في منتصف العمر أو ولداً في مقتبل الحياة ، وإذا ما حاول أحد الخروج عن تلك التقاليد الصارمة أعتبر ذلك خيانة لذكرى وروح الفقيد . والمرأة الصعيدية هي الحارس على خزانة الأحزان ، والمقاوم بعنف لأي محاولة لخرق تلك المراسم العتيقة .
الثأر .. عدودة يومية
وعلى الرغم من انتشار التعليم في محافظات الصعيد في السنوات الأخيرة ، ووصول معظم الخدمات من مياه وكهرباء واتصالات ، إلا أن عادة الثأر لم تتراجع عن واجهة الحياة في تلك المنطقة القاسية والمقفرة من جنوب مصر ، بل إن هذا التعليم وتلك الخدمات تم توظيفها لتطوير عملية الأخذ بالثأر ، وتحول المتعلمون إلى ما يمكن أن نسميه " جناحا سياسيا " لعائلات وقبائل الصعيد ، حيث يقوم هؤلاء بالتخطيط وإدارة عملية الثأر وما يعقبها من إجراءات قضائية أمام المحاكم ، بينما يتولى الأفراد الأقل تعليما في العائلة دور " الجناح العسكري " ، حيث يقومون بشراء الأسلحة وإخفائها حتى تحين ساعة " أخذ الحق " والانتقام لقتلاهم ، في حين يتولى التمويل أثرياء العائلة من التجار وملاك الأراضي ، كما يقوم هؤلاء بالإنفاق على أسر من يقتلون أو يسجنون في مسلسل الثأر الدامي .وهذا ما حدث بالضبط في مذبحة " بيت علام " حيث قام أحد أفراد العائلة الأثرياء بتمويل العملية وشراء الأسلحة ، وتولى المتعلمون التخطيط للعملية التي وصفها أحد رجال الأمن بأنها عملية " عسكرية محكمة ، فمع منتصف الليلة السابقة على الموعد المحدد لتنفيذ المذبحة تولت مجموعة من أفراد عائلة عبد الحليم الإشراف على عملية " إخلاء ميداني " شملت النساء والأطفال والمواشي والممتلكات الثمينة ، وتم توزيع هؤلاء على منازل الأهل والأقارب في القرى المجاورة ، وانتهت تلك العملية تقريبا في السادسة صباحا ، وبعدها قام أفراد من العائلة مزودين بأجهزة تليفون محمول بـ " استطلاع ورصد " الضحايا أثناء خروجهم من منازلهم واستقلالهم السيارتين ، وتم إبلاغ تلك المعلومات للفريق المكلف بتنفيذ العملية ، والذي انقسم إلى أربعة كمائن على مسافات متقاربة ، تولى الكمين الأول التعامل مع السيارة البيجو التي كانت في المقدمة ، وتعامل الكمين الثاني مع السيارة الميكروباص ، بينما قام أفراد الكمينين الثالث والرابع بتأمين المهاجمين ومنع تدخل أي طرف آخر ، وبعد الانتهاء من تنفيذ العملية انسحب الجميع إلى داخل زراعات الذرة والقصب المحيطة بمكان الحادث .
إجرام.. و ليس ثأر
وقد أثارت المذبحة البشعة التي نفذها أبناء عائلة " عبد الحليم " ضد خصوهم من عائلة " الحناشية " وراح ضحيتها 22 شخصا غضب واستنكار أبناء الصعيد أنفسهم ، ليس فقط لعدد الضحايا الكبير وغير المسبوق في تاريخ حوادث الثأر ، ولكن أيضا لأن تلك الحادثة خرجت على كل الأعراف والتقاليد التي توارثها الصعايدة عن أجدادهم للفصل ما بين الثأر والإجرام ، فالأخذ بالثأر له قواعده وأصوله الملزمة للجميع ، ومن يقتل أخذا بالثأر هو " رجل مقدام " في نظر عائلته والعائلات الأخرى ، على العكس تماما من محترفي الإجرام الذين يطلق عليهم في الصعيد " المطاريد " ، فهؤلاء يعتبرون مصدرا للعار ، ولا يحق لعائلاتهم المطالبة بثأرهم إذا قتلوا في حوادث تتعلق بنشاطهم الإجرامي ، وكذلك الأمر بالنسبة للقتلة المأجورين الذي قد تستعين بهم بعض العائلات الثرية قليلة العدد في حال وقوعها في خصومة مع عائلة اكثر عددا ، فهؤلاء لا ثأر لهم ، ودمهم مهدر .
ولعل تلك الأعراف هي التي جعلت أهل الصعيد يؤكدون أن ما حدث في " بيت علام " هو حادث إجرامي وليس محاولة للأخذ بالثأر ، إذ أن ميزان القتلى ما بين العائلتين كان متساويا قبل وقوع المذبحة ، وحتى إذا اعتبرت عائلة " عبد الحليم " أن قتيلها كان أحد أعمدتها ، وان " الحناشية " بالغوا في أخذهم بالثأر ، فهذا لا يبرر قتل كل هؤلاء الضحايا ، كما أن أسلوب " التصفية الجماعية " يبدو غريبا عن عادات الصعيد ، وسقوط العديد من الأطفال والكهول بين ضحايا المذبحة يعد أمراً مستهجنا لدى الصعايدة ، فالأطفال خارج حسابات الثأر ، وأحيانا يضطر أصحاب الثأر للانتظار سنوات طويلة إذا كان " المطالب بالدم " طفلا صغيرا .
وتعطي أعراف الثأر حصانة خاصة للضيوف ، فلا يجوز مهاجمة الخصم إذا كان بصحبته أحد الضيوف ، ويتشدد أهالي الصعيد إذا تعرض ضيوفهم للإيذاء ، ويعتبرون دم الضيف مضاعفا ، فالضيف برجلين ، وكذلك الأمر بالنسبة للنساء ، فالمرأة برجلين ، وان كان من النادر للغاية سقوط قتلي من النساء في حوادث الثأر ، خاصة انه ربما تكون المرأة من عائلة أخرى غير عائلة زوجها ، وهنا تتسع مساحة الخصومة لتشمل عائلة جديدة وهو ما يحرص الصعايدة على تجنبه .
" المعركة عيله .. والقتيل بيت "
والمطالبة بالثأر لها ضوابط معروفة في الصعيد ، فالأبناء هم الأحق بالقصاص لدم أبيهم ، يليهم الأخوة الأشقاء ، فالأخوة غير الأشقاء ، وإذا لم يكن للقتيل أبناء أو اخوة ، فحق المطالبة بالدم ينتقل إلى أبناء العم الأشقاء ، ومنهم إلى أبناء العمومة غير الأشقاء ، والثأر في الصعيد لا يلزم سوى أقارب " الدم " أي من ناحية الأب ، ولا علاقة لأقارب الأم بعملية الثأر ، وان كان الأمر لا يخلو من الدعم والمساعدة .
وقد خلفت مذبحة " بيت علام " جانبا مأساويا بالنسبة لـ 13 امرأة من عائلة عبد الحليم متزوجات من رجال الحناشات ، ومنهن من فقدت زوجاً أو ابناً ، وبقين بين حزنين : فقد الزوج والخوف من فقد الأخ أو العم ، ومع ذلك فقد فضلن البقاء مع أبنائهن ، باعتبار انه لا مفر من القدر المحتوم ، وهو نفس القرار الذي اتخذه الأبناء ، الذين أكدوا انهم لن يترددوا في " قتل الأخوال ثأرا للآباء والاخوة والأعمام " .
أما فيما يتعلق بمن يتم أخذ الثأر منه ، فالأمر أكثر تعقيدا ، ففي الغالب يتم استهداف القاتل باعتباره المسئول عن اندلاع الخصومة ، ولكن في بعض الأحيان تحرص بعض العائلات على قتل من يوازي في أهميته وعمره رجلها المقتول ، فإذا كان المقتول أحد كبار العائلة تم قتل من يساويه مقاما في العائلة الأخرى ، وإذا كان القتيل شابا يتم اختيار أحد شباب الخصوم ، وفي كل الأحوال يتم الحرص على أن تقتصر دائرة الثأر على القاتل أو الدائرة الضيقة من أقاربه ممن يشتركون معه حتى الجد الخامس .
وتختلف عائلات الصعيد في تعاملها مع قضية الثأر بحسب قربها أو بعدها عن المناطق الجبلية ، فالقرى القريبة من المدن تقتصر عملية الثأر داخلها على الدائرة الضيقة القريبة من القاتل ، ولا يخرج الأمر عن القاتل أو أحد اخوته أو أبنائه ، وكذلك الأمر بالنسبة لـ " أولياء الدم " ، فمن يقوم بالثأر هو ابن أو أخو القتيل أو أحد أبناء عمومته الأشقاء ، ويطلق الصعايدة على هذا الأمر مقولة " المعركة عيلة .. والقتيل بيت " ، بمعنى أن العائلة تشارك بأكملها في التشاجر ، ولكن حين يقع القتيل يقتصر الأمر على بيت القاتل والقتيل فقط ، وينحصر دور باقي أفراد العائلتين في الدعم والتعضيد .
وفي القرى الأكثر وعورة التي تقع في حضن الجبل تتسع الدائرة لتشمل جميع أفراد القبيلة أو العائلة ، الذين يشتركون جميعا في أخذ الثأر أو تحمل الدم ، بل إنهم غالبا ما يتلقون المعونة والدعم من جانب العائلات الأخرى التي يرتبطون معها بعلاقات نسب ومصاهرة .ولا يسقط حق الثأر بـ " التقادم " ، حتى لو ظل القاتل سنوات طويلة مختفيا أو خلف القضبان ، ففي إحدى قرى البدرشين بالجيزة قتل شابان شيخا في السبعين من عمره ثأرا لوالدهم رغم مرور 50 عاما على مصرعه ، وتكرر الأمر في إحدى قرى محافظة المنيا ، حيث أصرت الجدة على الثأر لولدها رغم مرور خمسين عاما على مقتله ، قضى القاتل نصفها في السجن ، وحفزت حفيدها على القصاص لوالده ، وكانت النهاية المحتومة .
وغني عن القول أن أهالي الصعيد لا يعتبرون السجن بديلا عن الثأر ، فحق الدولة غير حقهم ، وقانونها غير قانونهم ، وعندما يطرح هذا الأمر على الصعايدة ، تجدهم يجيبون بتلقائية " القبر أضيق كثيرا من الزنزانة " ، وقد عبر أحد أفراد عائلة الحناشات عن الأمر بصورة بليغة " إن القتلة سبعة أو تسعة من عائلة عبد الحليم ، والقتلى 22 رجلا ، فكيف يمكن مساواة العدد ؟ ، حتى لو تم إعدام جميع من شاركوا في المذبحة " .
وراء كل ثأر .. امرأة
على الرغم من أن الدراما التليفزيونية والسينمائية أظهرت المرأة الصعيدية في صورة المقهورة والمظلومة التي تحرم من طفولتها ومن حقها في التعليم ومن ميراثها الشرعي .. وغيرها من الصور السلبية التي ترسخت في الأذهان عن نساء الصعيد ، إلا إن الواقع يختلف كثيرا ، فالمرأة ربما تكون مقهورة ومحملة بالكثير من الهموم والأعباء ، ولكن هذا الأمر ينطبق - أيضا - على الرجل الصعيدي ، فالطبيعة القاسية في جنوب مصر من فقر وبطالة وجهل ونقص في الخدمات لا تفرق بين رجل وامرأة ، فالكل تحرق بشمس الصعيد اللاهبة وعاني من تقاليده الجامدة الصارمة ، ولا يملك أحد التملص من تلك التقاليد إلا اتهم بالجبن والعقوق .
ومن المفارقة أن المرأة الصعيدية تلعب دور الحارس على تلك التقاليد ، وعلى رأسها بالطبع الثأر ، فالمرأة تكاد توهب حياتها بالكامل للثأر لأب أو زوج أو أخ أو ابن قتل غدرا ، وتتصدي لأي محاولة من أفراد أسرتها للتهرب من " الدم " ، وشهد الصعيد عشرات النسوة اللاتي بتن يدعين الله ليل نهار أن يحفظ لهن الابن والأخ ، لا لشيء إلا ليأخذ ثأر عائلته ، فالمرأة الصعيدية ترضع ابنها وتربي شقيقها على أن الثأر مرادفا للرجولة ، وانه قدر محتوم لا مفر منه ، وفي أحد حوادث الثأر استدرج شقيقان قاتل أخيهما لتناول العشاء ثم ذبحوه وقدموا رأسه هدية لأمهم .
ولا تتردد المرأة الصعيدية في تهديد ذويها بأنها سوف تأخذ ثأر العائلة بنفسها إذا ما لاحظت تباطأ من جانب الرجال ، وكثيرا ما تقدم على " حلق شعرها " بالكامل ، وناهيك عن تريدها الدائم لتلك المواويل البكائية الممزوج بالدم ، فهي تستحث الأعمام على أخذ ثأر أخيهم على لسان ابنه الرضيع " وصيت يا بايا علينا مين‏..‏ قلب قاسي ولا قلب حنين‏ " ، ثم ننتقل إلى الأخوال " يا خال ربيني ووديني حداك .. ‏ لابد أبويا يوم الرحيل وصاك " ، وعندما تلاحظ المرأة تباطأ من جانب الأقارب فإنها تتوجه إلى ابنها الصغير باعتباره الأمل الأخير " يا بويا هات لي توب مايدوبشي‏ .. ‏ ده العم ولا الخال ما يدومشي " .
وفي بعض الأحيان تتخيل الأم الصعيدية ابنها القتيل يناديها " يا أمه خديني علي حجرك اليمين .. ‏ ماليش جبايل اعدل اللي يميل " ، وتكمل الأم ذلك الحوار الوهمي مخاطبة ابنها " من غيبتك والنفس أهي انكسرت‏ ..‏ من غيبتك والقلب فيه وسواس‏ ، ياللي شبابك يشبه التفاح‏ .. ‏ حزني عليه سكن اللحود وراح‏ ، ‏ ياللي شبابك يشبه العنبي ..‏ حزني عليه سكن اللحود وبلي" ، ويمضي الحوار ويَذكر الابن أمه برغبته في الزواج قبل أن تبعده يد الغدر " يا أمه اخطبي لي بيضة بشعر طويل " ، وترد ألام بسرعة " خطبت لك بس العمر قصير " .
والمرأة الصعيدية لا تقف عند حد التحريض فقط ، بل إنها في بعض الأحيان تحمل السلاح ، وهو ما حدث بالفعل في إحدى قرى محافظة قنا ، فبعدما التهم الثأر من الرجال من التهم ، وابتلع السجن الباقين ، تدربت المرأة على استخدام السلاح وحملت البنادق الآلية ، وأخذت على عاتقها رعاية الأرض والأطفال .
وقد شهدت قنا أشهر حوادث الثأر التي نفذتها امرأة ، حيث أقسمت امرأة اسمها " ليلى " على الثأر لاخوتها الثلاثة الذين قتلوا غدرا ، خاصة أن أبناءها وأبناء اخوتها مازالوا أطفالا ، وأصرت على أنها ستأخذه مضاعفا ، وحلقت شعرها ، وارتدت ملابس الرجال ، وحملت مدفعا رشاشا ، وانتقلت للإقامة في الكهوف ووسط زراعات القصب ، وظلت تراقب أعداءها سنوات طويلة حتى حانت اللحظة الحاسمة ، وعلمت أن قاتلي اخوتها يستقلون سيارة ميكروباص لتأدية واجب العزاء بإحدى القرى ، فانتظرتهم عند مدخل القرية، وأوقفت السيارة وطلبت من السائق النزول لأنه ليس من نفس العائلة ، وحصدت 12 شخصا من خصومها .‏
العز .. في أفواه البنادق
وترتبط ظاهرة الثأر في الصعيد ارتباطا مباشرا بعادة اقتناء السلاح المتأصلة لدى قبائل وعائلات الصعيد ، فالصعيدي يضع البندقية في منزلة الابن ، وغالبا ما لا تفارق كتفه إلا عند النوم ، ولا يفكر في بيعها مهما بلغت ضائقته المالية ، ومعظم أبناء الصعيد ممن فوق العاشرة يجيدون استخدام السلاح ، وهو ما ينطبق على نسبة كبيرة من النساء أيضا ، وتكاد أفراح الصعيد أن تتحول إلى مظاهرة مسلحة ، فالجميع يذهب حاملا بندقيته للمجاملة بعدة رخات في الهواء ، وهي عادة يحرص عليها الجميع ، لدرجة أن البعض قد يحسب عدد الطلقات التي أطلقها الضيف لكي يردها في أفراحه ، ويتبادل الصعايدة في أفراحهم التحية بإطلاق النار في الهواء ، فالضيف يعلن عن قدومه بإطلاق دفعة في الهواء ، فيرد عليه صاحب الفرح بدفعة مقابلة .
وتجارة السلاح من الأنشطة الرائجة في الصعيد ، ويأتي معظمها عبر الوديان والدروب في الجنوب ، خاصة فيما يتعلق بالأسلحة الآلية والرشاشات ، كما أن جزءاً كبيراً من أسلحة الصعايدة تسرب إليهم عبر الحروب المختلفة التي خاضتها مصر . وأما فيما يتعلق بالأسلحة البدائية مثل " الفردة " وهي سلاح مزود بطلقة واحدة يتم تصنيعها داخل ورش حدادة صغيرة ، وقد عرف الصعيد في الآونة الأخيرة ظهور أسلحة متطورة مثل رشاش " عوزي " الإسرائيلي ، وتمتلك عائلات قليلة أسلحة أكثر تطورا مثل مدفع " أر . بي . جي " المضاد للدبابات والذي يصل ثمنه لأكثر من 40 ألف جنيه ، في حين يتراوح ثمن البندقية الآلية الجديدة ما بين 4 و 6 آلاف جنيه ، ويقل الثمن للنصف للبندقية المستعملة ، واما " الفردة " المصنعة محليا لا يتجاوز ثمنها 200 جنيه . ولا يقبل أهالي الصعيد على اقتناء " الطبنجات " ، ويقتصر استخدامها على من يحملون رخصة سلاح ، حيث لا يسمح قانون السلاح المصري سوى بترخيص الطبنجات والأسلحة نصف الآلية ، أما الأسلحة الآلية فمحظور حملها بحكم القانون .
القودة .. المفر الوحيد
يرفض الصعايدة قبول الدية عوضا عن الثأر ، ويعتبرون ذلك " بيعا " لدم القتيل مقابل حفنة من المال ، ولكنهم يقبلون بما يسمى " القودة " ، وهي عادة قبلية قديمة ، يقوم فيها المطالب بالدم أو زعيم عائلته بحمل ثوب من القماش على هيئة " الكفن " ، ويذهب مع أفراد العائلة إلى منازل أصحاب الدم ، ويقدم لهم الكفن ويتم نحر الذبائح إعلانا عن نهاية الخصومة وسقوط الثأر ، وفي بعض الأحيان تتضمن طقوس القودة قيام القاتل بوضع الكفن على الأرض ووضع رأسه فوقه وبجواره خروفا، ثم يقترب منه صاحب الدم حاملا سكينا ماضيا ، ويقترب منه في بطء ، وبدلا من قطع رقبة القاتل ، فانه ينحر الخروف ، وذلك دلالة على قدرته على الذبح . والقودة على الرغم من دلالتها الرمزية إلا أن البعض يفضل أن يقتل على أن يقدمها لخصومه ، لما ترمز له من ضعف وذل ، ولا تتردد بعض العائلات في التبرؤ ممن يقدم على تقديم كفنه هربا من الثأر .
ويتذكر أهالي محافظة قنا حادثة دامية مرتبطة بـ " القودة " ، ففي إحدى القرى ذهب شاب في مقتبل العمر مع والده إلى منزل إحدى العائلات حاملا كفنه لتقديمه إلى عائلة شاب آخر كان قد قتله ، وعندما جلس على الأرض وبجواره الخروف كما هي العادة ، تقدم أحد أبناء العائلة الأخرى شاهرا سكينا ضخما ، وبدلا من أن يذبح الخروف أغمد السكين في رقبة الشاب المستسلم على الأرض وفصلها عن جسده ، فلم يكن من الأب المسكين وهو يرى ابنه الوحيد يذبح أمام عينه سوى أن سحب بندقيته الآلية وقتل اكثر من 20 شخصا وأصيب بعدها بالجنون .
وحكايات الثأر في الصعيد كثيرة ومنها ما لا يقل دموية عن مذبحة بيت علام ، ففي مدينة قوص بمحافظة قنا ارتدى 6 أشخاص من إحدى العائلات ملابس النساء ونزلوا إلي السوق في وسط النهار بعد أن أخفوا البنادق الآلية في ملابسهم وقتلوا 13 شخصا من عائلة خصومهم فما كان من العائلة الأخرى إلا أن قتلتهم قبل أن يخرجوا من السوق .
وشهدت محافظة المنيا في عام 1998 حادثة دامية أخرى ، حيث تربصت إحدى العائلات لأفراد عائلة أخرى أثناء خروجهم من صلاة الجمعة ، ودارت معركة بالأسلحة الآلية والسكاكين سقط خلالها 24 قتيلا من الجانبين والعديد من المصابين . ولا تقتصر حوادث الثأر على العائلات فقط ، بل شهدت محافظات الصعيد خصومات ثأرية ما بين قبائل تمتد عبر عدة محافظات كما حدث بين العرب والهوارة في فترة الستينات ، وقد تقع الخصومة بين قرى بأكملها ، وهو ما شهدته محافظتا سوهاج و قنا عام 1996 حيث اندلعت معارك بالرشاشات والأسلحة الآلية ما بين مركز أبو تشت الواقع غرب النيل والتابع لقنا وبين قرى البلابيش التابعة لسوهاج والتي توجد على الضفة الأخرى للنيل ، وقد تكرر الأمر في محافظة أسيوط بين قرية النواميس التابعة لمركز أبو تيج وقرية النخيلة الواقعة في زمام مركز البداري
اشرف قناوى

ليست هناك تعليقات: